يوري غاغارين ( 1934 – 1968 )
أول رائد فضاء في تاريخ البشرية
أكتر: من سيكون الأول ؟ رحلة غاغارين في أرقام ما يقوله غاغارين عن غاغارين : من سيكون الأول ؟ أول إعلان رسمي عن طلب ترشيح كروّاد فضاء ظهر في أروقة و ممرات و غرف القواعد الجوّية االمسلّحة السوفياتية . و كان الطيّارون الحربيون ينظرون إلى هذا الإعلان و كأنه نكتة سوداء . كيف يتخلون عن مهنتهم كطيّارين لأكبر و أسرع و أكفأ الطائرات في أشرس المعارك . إنه الهذر المطلق . و معظمهم رفع حاجبيه إستنكاراً . القليل منهم أخذ الإعلان على محمل الجد .
تقدم حوالي ثلاثة آلاف و خمسمائة مرشح ، أرسلت رسائلهم إلى رئيس المصممين سيرجي كورولييف ، الذي لم يعلن عن إسمه إلا بعد وفاته في عام 1966 م .
في عام 1959 بدىء بانتقاء المرشحين ، و وقع الخيار على عشرين شخصاً من بينهم يوري غاغارين . و خضع هؤلاء إلى تدريبات خاصة و صعبة ، فلم يستطع جميعهم تحملها ، و صمد
منهم ( 12 ) فقط ، فاختار منهم كورولييف ستة أشخاص ، و نذكر هنا أسماءهم لأنهم لعبوا في الرحلات السوفياتية المأهولة فيما بعد أدواراً مهمة :
Valerie Bykowski , German Titov , Gregory Nelubov , Andrian Nikolaev , Pavel Papovich and Yuri Gagarin
و تفوّق غاغارين على أقرانه في كل التجارب و الفحوص النفسية و الجسمانية ، و كان عمره آنذاك خمسة و عشرين عاماً فقط .
و عندما سأل كورولييف الستة المرشحين أن يكتب كل واحد منهم تقييماً للآخرين ، إعتقد ثلاثة منهم أن غاغارين هو الأول . و بالفعل ، كان غاغارين يحصل على أكبر الدرجات خلال التدريبات .
في الثامن من نيسان 1961 إجتمعت اللجنة الحكومية في مطار بايكونور الكوني و رشحوا يوري غاغارين ليكون رائد الفضاء الأول ، على أن يكون البديل في حالة طارئة هو جيرمان تيتوف . في التاسع من نيسان أخبر يوري غاغارين شفوياً بهذا القرار و فقط في الحادي عشر من نيسان 1961 أخبر غاغارين بالقرار رسمياً ،أي قبل التحليق الفضائي بيوم واحد .
رحلة غاغارين في أرقام ## السفينة الفضائية التي أقلت غاغارين في التحليق الفضائي الأول في تاريخ الإنسانية تسمى سفينة فوستوك " أي الشرق " وهي عبارة عن كرة صغيرة بقطر 43 . 2 متراً ، وتزن مع معداتها أقل من خمسة أطنان ، و تم تثبيتها على صاروخ طوله 36 .38 متراً و وزنه 287 طناً .
## مدة تحلق فوستوك في المدار ( 89 ) دقيقة , أما مدة التحليق الفضائي ما بين الإطلاق والهبوط على الأرض فتبلغ ( 108 ) دقيقة .
## أما المدار فكان إهليليجياً ، أعلى ارتفاع فيه وصلته فوستوك هو (327 ) كيلو متراً ، وأعلى سرعة بلغتها هي ( 27400 ) كيلو متراً في الساعة .
## كان طول الصاروخ عند الإطلاق : 125 قدماً و عند العودة و الخروج من المدار باتجاه الأرض فقط سبعة أقدام و نصف .
## الجدول الزمني لرحلة فوستك الأولى ، وعلى متنها يوري غاغارين :(بالتوقيت الدولي Universal Time )
يوم 12 نيسان 1961 م
2:30 تم إيقاظ غاغارين و تيتوف من نومهما
4:10 غاغارين يشغل جهاز الراديو اللاسلكي.
4:58 أعيد فتح باب السفينة فوستوك بعد إكتشاف خلل فني و عدم ظهور إشارة التماس .
6:07 إطلاق مركبة فوستوك الأولى إلى الفضاء.
6:12 إنفصال الصاروخ للمرحلة الثانية.
6:21 إنفصال صاروخ المرحلة الثالثة في المدار .
6:57 مركبة فوستوك فوق أمريكا .
7:25 تشغيل الصواريخ الكابحة retrorocket system.
7:55 يهبط غاغارين بسلام على مسافة ستة كيلومترات من المكان المقرر لها و على مسافة 26 كيلومتراً من مدينة إنجلز ، في منطقة ساراتوف المألوفة جيداً لغاغارين ، لأنه تدربّ على الطيران والقفز بالمظلات في هذه المنطقة .
ما يقوله غاغارين عن غاغارين : ولدت في عائلة بسيطة للغاية ، لا تختلف في شيء عن ملايين عائلات العمّال في وطننا الإشتراكي . إسم والدي هو أليكسي إيفانوفيتش غاغارين و والدتي هي آنا تيموفيفنا .
كنا أربعة أشقاء : أخي الأكبر يدعى فالنتين و و لد في عام 1925 ثم ولدت أختي زويا . و أما أنا فكان ميلادي يوم 9 آذار 1934 ، و أخي الأصغر هو بوريس ، الذي ولد في حزيران 1936 .
والداي كانا يعملان في كولخوز القرية " كلوشينو " : والدي كان يعمل نجّاراً و أمي تحلب الماشية . و لإخلاصها و اجتهادها في العمل أختيرت قائدة في مزرعة الحليب التابعة للكولخوز .
و والدي هو إبن فلاّح من مدينة سمولنسك ، ذهب فقط سنتين إلى المدرسة ، و لكنه كان محباً للمطالعة و فضولياً ، فثقف نفسه عن طريق المطالعة و القراءة . و في قريتنا كان يعتبر العارف بكل شيء . كان باستطاعته القيام بأي عمل في جميع مناحي الإقتصاد الفلاّحي ، و أفضل عمل لديه هو النجارة . في عائلتنا كانت سلطة الأب غير قابلة للنقاش . كان شديداً و لكنه كان عادلاً . كان يعلمنا مبادىء النظام و احترام الوالدين و حب العمل . لم يكن يدللنا و لكنه كان يستمع جيداً إلى رغباتنا . كانت كل حياته مرتبطة بالكولوخوز الذي كان يعتبره بيته الثاني . كان معاقاً و مصاباً بساقه ، و لهذا لم يشترك في الحرب .
ذات يوم أحد عاد والدي مهرولاً إلى البيت ، قادماً من سوفييت القرية . لم نره في حياتنا هكذا مهتاجاً و مرتبكاً . لم يستطع أن يقول سوى كلمة واحدة : " الحرب " .
و بدأت الحرب العالمية الثانية و دخل الألمان بلدنا . كل شيء بدا آنذاك و كأنه فقد رونقه . صمتت الأغاني في القرية ، و حتى نحن الأطفال لم نعد نلعب .
جاء شهر أيلول و ذهبت مع أقراني إلى المدرسة . لقد كان ذلك اليوم الكبير و الاحتفالي الذي كنت أحن له . و ما كدنا نبدأ بتعلم الأحرف الأولى حتى أخذنا نسمع أن الألمان الفاشيست أصبحوا قريبين لنا . في ذلك اليوم مرّت طائرتان سوفياتيتان عليهما نجوم حمراء فوق ساحات قريتنا . إنهما أولى الطائرات التي أراها في حياتي . و سقطت طائرة منهما بسبب قذيفة ألمانية . و ساقها قائد الطائرة بآخر قواها إلى مستنقع قريب و اصطدمت بالأرض و تطايرت شظاياها ، بينما إستطاع قائدها الشاب القفز سالماً إلى الأرض و بدون مظلة . و سقطت الطائرة الأخرى على المرج المجاور للمستنقع . و أسرعنا بالطبع نحن الصغار إلى هنالك . كل منا أراد أن يلمس قائد الطائرة . و صعدنا درجات سلّم الطائرة . و لقد تنفسنا بنزين الطائرة غير المعروف لنا . و استطعنا أن نعدّ آثار الطلقات التي أصيبت بها الطائرة . كان فريق الطائرة مهتاجاً و غاضباً ، و أخذوا يحركون أيديهم قائلين : سيدفع الألمان غالياً مقابل هذه الطائرة . فتحوا أزرّة جاكيتاتهم الجلدية و كانت النياشين تلمع فوق قمصان بزاتهم العسكرية . لقد كانت أولى النياشين التي أراها في حياتي . و أدركنا نحن الصغار ثمن الحصول على مثل هذه النياشين .
وتقول والدة غاغارين في كتابها " ذكراه في القلب " : حدثني يورا بكل دقة عن تفاصيل الحادث وكان يكرر كلمات الطيار : ما إسم قريتكم ؟ أيها الفاشيون الأوغاد ، سوف تدفعون الثمن غالياً . يجب أن تعلموا هذا أيها الأطفال . و هؤلاء الطيارون هم فعلاً أبطال و قد حاربوا في إسبانيا . و قال لي يورا : إن الطيّار أعطاه الحقيبة الجلدية ليحملها . و قال يورا لي : ماما ، سأكبر و أصبح طيّاراً . وبعد الرحلة الفضائية جاءت رسالة من مدينة غوركي . كانت الرسالة من الطيار الحربي السابق لارتسييف وأشار فيها إلى أنه يتذكر جيداً المعارك الجوية التي دارت في شهر أيلول 1941 ويتذكر هبوطه الإضطراري في قرية قرب سمولنسك ويتذكر مجموعة الصبيان الذين وقفوا ينظرون إلى الطائرات والذين أحضروا لنا الطعام . وقال في رسالته : أتذكر الطفل الذي كان يقول لي سأصبح طياراً يا عمّ . وقال أيضاً ، بأنه لم يكن يتوقع في تلك الظروف الصعبة أن يلتقى في هذه القرية مع الإنسان الذي سيصبح أول رائد فضاء في العالم .
( و يستمر غاغارين قائلاً ) ... .... و تتابعت الأحداث بسرعة . طوابير السيارات سارت بالجرحى عبر قريتنا . و أخذ الجميع يتحدث عن إخلاء السكان . لم يكن هناك وقت للتفكير . غادر عمي و معه حيوانات الكولخوز . و بدأ والداي التحضير للمغادرة و لكن الوقت لم يسعفنا لذلك . سمعنا هدير المدافع و تلوّنت السماء بلون النيران و فجأة و بدون توقع إندفع الألمان على الدراجات الهوائية داخل القرية و بدأت الآن الفوضى الضارية . فتش الألمان كل بيت بحثاً عن الأنصار و أخذوا من كل بيت كل شيء ذا قيمة . ثم طردونا من بيتنا . فاضطررنا لحفر حفرة في الأرض و عملنا فيها كوخنا بعد نضح مياه الأمطار منها . و عشنا فيه حتى إنسحاب الألمان من قريتنا في شهر آذار 1943 م . و أسوأ ما عشناه كان في الليل ، حينما كنا نسمع هدير الطائرات الألمانية المتجهة إلى موسكو . كان وجه والدي ووجه والدتي مليئين بالأسى و الهموم ، على مصير العائلة و مصير الكولخوز و أيضاً على مصير شعبنا كله . لم يكن والدي ينام ليلاً . كان يصغي فيما إذا كانت هناك عيارات سوفياتية تسمع أو أن فرقنا العسكرية قد هوجمت . و بقلق كان يتحدث مع والدتي و بصوت خفيض حول رجال العصابات ( الأنصار) . في ذلك الوقت لم يكن لدينا راديو أو صحف أو رسائل . لم نكن نعرف ما يحدث في المناطق المجاورة .
كان يعيش في بيتنا ألماني إسمه ألبرت . و كان يعمل في شحن بطاريات السيارات . و لم يكن يطيق رؤية الأطفال . و ذات يوم إقترب أخي الأصغر بحب الفضول إلى ورشته فأمسك بأخي و لف عنقه بالشال و علقه على شجرة تفاح . و اندفعت أمي باتجاه أخي و لكن الألماني منعها من الاقتراب . و أردت أنا أن أصرخ و أنادي الناس من القرية فلم أستطع . لقد توقف تنفسي كما لو أن الشنق وصل لي و ليس لأخي . و لحسن الحظ نادى أحد الرؤساء هذا الألماني فجأة ، و هكذا إستطعنا ، أمي و أنا ، أن نحرّر أخي و حملناه إلى كوخنا الأرضي و بعد ساعات إستعاد وعيه .
و نحن الصغار كنا نقلد الكبار و نعمل أضراراً للفاشيست . كنا نرمي بالمسامير و شظايا الزجاج على الطريق و نحشو الخرق و القاذورات في أكسوست سيارة الألماني . كان يكرهني ، فأهرب للمبيت عند الجيران .
( وتقول والدة غاغارين ... .... عرف الألمان أن أليكسي يعمل طحاناً وطلبوا منه ذات مرّة طحن كمية من الطحين . عطل أليكسي المطحنة فاستدعوه في اليوم التالي وجلدوه . في اليوم التالي أحرق أليكسي المطحنة . و تقول أيضاً : كنا نجلس في الحفرة و نعد القنابل التي تتساقط على رؤوس الفاشيين . و اعتبرنا هذه القنابل تحية للوطن .... ... كان أليكسي ينام ساعات قليلة في الليل و يخرج للمناوبة و مراقبة العدو . و ذات مرّة جاء و معه ثلاثة جنود سوفيات ، و أخبرهم عن تحركات الفاشيين بكل دقة ، و ثبت الجنود هذه المعلومات على الخرائط ) .
( و يستمر غاغارين قائلاً ) ... ... و اقتربت المعركة من قريتنا حتى مسافة ثمانية كيلومترات . و نحن الصغار كنا نرى و نعيش كل هذا . ذات يوم حلقت ست طائرات سوفياتية فوق قريتنا و بعدها سمعنا عدة إنفجارات . و عندما عادت مرة أخرى ، أدركنا أن واحدة منها قد أصيبت ، و لكنها عادت للظهور و هي تحترق . أخذت تطلق النار على التجمعات الألمانية في قريتنا ، ثم سقطت فيما بينهم تماماً . لقد كان الطيّار سوفياتياً حقيقياً . و عرفنا مباشرة بعد ذلك أن الألمان أطلقوا قذائفهم عليها من تلّة خلف القرية . و نحن الأطفال كنا نتحدث عن هذا البطل الذي لن ينتسى . و جاء الانتقام في اليوم التالي : من الطائرات الخمس الباقية . في الصباح حلقت هذه الطائرات المقاتلة و أبادت الموقع الألماني الذي أسقط الطائرة ، و لم ينج فاشيستي واحد في الموقع . و كنا نحن الأطفال و منذ الطلقة الأولى نتفرج على المعركة .
ذات يوم شاهدت طائرة ترمي المناشير ، فالتقطت واحدة و أخفيتها في جيبي مهرولاً إلى البيت . لم أكن أعرف القراءة بعد . في البيت قرأناها سوية : المنشور يتحدث عن هزيمة الفاشيست في ستالينجراد .
و ذات مساء أطل علينا جنديان سوفياتيان في كوخنا و تحدثا مع والدي الذي أعطاهما معلومات عن تحركات الفاشيست .
و خرج الألمان من قريتنا يوم 6 آذار 1943 م آخذين معهم أسرى من شباب و فتيات القرية و من بينهم أخي الأكبر فالنتين و أختي زويا . و جاء الجبش السوفياتي و أخبرهم والدي عن مواقع الألغام التي زرعها الألمان . بدت الحرب لنا و كأنها أبدية و كانت مؤلمة للجميع . و كان رسول البريد يعتبر أحسن ضيف حين يأتي إلى الأكواخ . كل يوم يأتينا بخبر مفرح أو بأخبار محزنة . و عرفنا فيما بعد أن أخي فالنتين و أختي زويا قد هربا من الأسر و أنهما إنضما إلى الأنصار لمحاربة الألمان الفاشيست . أخي إنضم لفرقة المدرّعات و أختي عملت في الطب البيطري في قسم الفرسان .
و بعد إنقطاع لمدة سنتين عدت إلى المدرسة . كانت لدينا معلّمة واحدة فقط لتدريس أربعة صفوف دفعة واحدة . و لم يكن لدينا لا حبر و لا ورق و لا دفاتر أو طباشير . و تعلمنا العدّ في درس الحساب بواسطة عبوات الرصاص الفارغة .
في صفنا كانت هناك خارطة لأوروبا معلقة على الجدار . كنا نغرس علماً أحمر حيثما تنتصر فيالقنا العسكرية . و لقد حرّر الجنود السوفيات بوخارست و صوفيا و تغلغلوا في بلغراد عاصمة يوغوسلافيا . و بدأت الجيوش السوفياتية تحارب الآن على الأرض الألمانية .
و الكل إنتظر إنتهاء الحرب . و ذات يوم جاءت أمي من مقر سوفيات القرية و هي تركض و عانقتني و قبلتني و صرخت قائلة : لقد قضي على هتلر ، لقد احتلت جيوشنا مدينة برلين .
و أخذت أركض في الشارع ، و رأيت فجأة الربيع في الخارج و أن الحدائق قد أزهرت . و رأيت زرقة السماء فوقي . و سمعت كل طيور الأرض تغني و أحسست بموجة من الأحاسيس المفرحة و الخواطر المختلطة تغمرني .
( و تقول والدة غاغارين ....... و فتحت المدرسة أبوابها في إحدى البيوت ، لأن الألمان كانوا قد أحرقوا المدرسة الأصلية . و شارك يورا في فرقة الغناء الجماعي في المدرسة و ألفوا مسرحية بعنوان " لقاء مع بطل سوفياتي " و قرأ يورا قصيدة وطنية بحماسة كبيرة و كأنما كان يؤدي القسم ) .
بعد الحرب ذهبنا للعيش في مدينة غاتسك . و في المدرسة بدا لي زملائي الطلاب و كأنهم حكماء نتيجة التجارب التي عاشوها في الحرب . معظمهم سقط آباؤهم في الحرب . و مر الوقت بسرعة . و انتقلت إلى الصف الخامس ، ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى . و هناك دخلت في تنظيم الطلائع . و كنت ألعب على آلة النفخ الموسيقية في الأوركسترا . و كنت أمثّل في المسرحيات المدرسية . و أحببنا اللغة الروسية بفضل المعلمة ، فتعرفنا على بوشكين و ليرشتوف و مكسيم غوركي و تولستوي . و في الصف السادس أنتخبت عريفاً للصف .
أما مدرّس الفيزياء فكان إنساناً ذكياً بشكل غير عادي . لقد جاء من الجيش و لكن بدون أوسمة أو زخارف على الكتف . كان يعمل في السلاح الجوّي على شكل طيّار أو عامل على جهازاللاسلكي . في غرفة الفيزياء كان يعمل تجارب تقارب السحر : كان يضع ماء في قارورة و يحملها مهرولاً إلى الخارج حيث البرودة القاسية ، فتنفجر كالقنبلة . ثم كان يمشط شعره بمشط ، و كنا نسمع صوت فرقعات صغيرة و نشاهد شرارات زرقاء صغيرة . كان يستطيع أن يجعلنا نهتم بكل شيء . و كنا نحفظ قوانين الفيزياء هكذا بسهولة كما نحفظ القصائد و الأشعار . و منه تعلمنا كيف أن تفاحة ساقطة من الشجرة ساعدت نيوتن في صياغة قانون الجاذبية و اكتشافه .
و بعد أن أنهيت الصفوف الستة في غاتسك ، كان علي أن أفكر في تعلم مهنة أحترفها مستقبلاً . كنت أود إتمام الدراسة ، و لكن وضعنا المالي لم يكن يساعد على ذلك . و ربما فيما بعد سأتمم الدراسة .
و ذهبت إلى موسكو للتدريب في مصنع لسكب المعادن و خراطتها . كنا كطلاب نسكن سوية و نستيقظ سوية و كذلك نذهب سوية إلى المطعم و الملعب ... إلخ . كنا مجوعة رومانسية : نتجادل دوماً حول البطولة و الأبطال . و الحقيقة أن العمل في صهر المعادن أخذ يعجبني كثيراً و أصبحت أتمتع به .
( و تقول والدة غاغارين ... .... بأن والده كتب له رسالة و هو في المدرسة الصناعية في موسكو ، و حثه على زيارة خالته ماريا التي كانت تعيش بالقرب من موسكو على أن يساعد أقاربه في الأعمال المنزلية الصعبة كتصليح السياج و غيره و ذلك بدون تأجيل . و كان أليكسي يسأل أقاربه عن كيفية تصرف يوري عند زيارته لهم . و قال لي أليكسي ذات مرة : أكتبي إلى يورا بطريقتك الخاصة ، بأن الإنسان يجب أن يساعد غيره حتى و لو كان مشغولاً جداً ) .
و بالرغم من تعلمي هذا كنت دوماً أريد المزيد من التعلم . كنت أستعير الكتب و أغضب لأن اليوم يتكوّن فقط من أربع و عشرين ساعة . كانت سنوات الضياع تحت الاحتلال الفاشيستي مؤسفة و مؤلمة . كنت أحلم أن أتمم دراستي في معهد و أن أصبح مهندساً ، و لكن هذا يتطلب إنهاء الدراسة المدرسية العليا . فدخلت مع زملاء لي في مدرسة مسائية في الصف السابع و ذلك في العام الدراسي 1950 / 1951 .
و دخلت مدرسة لينين للرياضة و حصلت على علامة كاملة ، إذ كنت قبلها معروفاً كرياضي جيد و حصلت على أوسمة في مباريات عديدة . و عندما عدت إلى المصنع أخبروني بإمكانية دخولي إلى الكلية الصناعية في مدينة ساراتوف . ها قد أصبحنا طلاباً ، و لدينا شهادة إمتياز في الصف السابع ، فلم نكن بحاجة إلى إمتحان قبول . أحببت مادة الرياضيات و أدركت أنه في عصر الذرة هذا لا يمكننا العيش بدون الرياضيات . كل شيء يعتمد على الحسابات الدقيقة . و كل منا كان يحلم بالحصول على مسطرة حاسبة .
في الشرق الأقصى فإن الشعب الكوري المتطلع إلى الحرية قد قهر أعظم بلد رأسمالي في العالم : الولايات المتحدة . و كنا نبدأ عملنا كل يوم بالسماع لآخر المعارك على الجبهة الكوريّة . كانت تلك الساعة مترعة بالنقاشات حول البطولات .
و في هذه الأثناء تم إنتخابي عضواً في منظمة الشبيبة ، و كنت سكرتيراً للاتحاد الرياضي .
و ابتدأت السنة الدراسية الاخيرة و انتقلنا من النظرية إلى الناحية العملية التطبيقية . و هكذا أرسلوني إلى مصنع قايكوف في ليننجراد ثم إلى مصنع فولكان . هنا في هذه المدينة ، كل شيء كان يشير إلى الكفاح . لا توجد مدينة على الأرض هكذا غنية بالتاريخ الثوري مثل مدينة ليننجراد . هنا في هذه المدينة عمل بوشكين و غوغول و ديستوفسكي ... إلخ . ثم عدنا إلى مدينة ساراتوف . و كان موضوع الفيزياء في كلية الهندسة من أمتع المواضيع عندنا . كنا ندرك أن المهندس عليه أن يفهم الفيزياء جيداً ، حتى الكرة الأرضية تدور وفقاً لقوانين الفيزياء . و كنا نتناوب في إلقاء المحاضرات في حصة الفيزياء . و كانت محاضرتي بعنوان :
" تسيولكوفسكي و مبادئه حول موتورات الصواريخ و الرحلات ما بين الكواكب "
و قرأت الكثير من أعمال تسيولكوفسكي ( 1857 - 1935 ) الذي أخذ يسيطر على روحي . أعماله كانت أقوى من أعمال جول فيرن و هيربرت ويلز و بقية كتّاب قصص الخيال العلمي الآخرين Science Fiction . كل ما قاله هذا العالم الخالد تحقق منه بالتجارب الشخصية .
و أنهيت محاضرتي عنه بكلماته الخالدة و القائلة : " لن تبقى الإنسانية إلى الأبد على الأرض ... " و استمرت الدراسة في مسارها المرسوم . و كان يكفي أن أسمع هدير طائرة محلقة أو حتى أن أقابل طيّاراً حتى ينفعل قلبي . و كنت أعرف بوجود نادٍ للطيران في ساراتوف ، و كان الطلبة يتحدثون عنه يإيجابية كبيرة . و سررنا حين عرفنا بقبول هذا النادي لطلبة الصف الرابع في كلية الهندسة . و في نفس اليوم ذهبت مع صديقين و تم قبولنا كأعضاء فيه .
و لكن و قبل أن تبدأ ساعات الطيران يتوجب علينا أن نهبط مرة واحدة على الأقل بواسطة المظلة و قالوا لنا وقتها : نود أن نرى فيما إذا كنتم تملكون الشجاعة ؟؟ ثلاثة ليالٍ متتاليات أخذونا إلى ساحة الطيران للقفز بالمظلة ، و لكن الطقس لم يساعد . فكنا نعود مرهقين و مثارين . كان معنا بعض الفتيات و كن مندهشات من هدوئي و اعتقدن أنني كنت قد قفزت بالمظلات سابقاً . و حينما جاء دوري للقفز بالمظلة لأول مرة وقفت خائفاً على جناح الطائرة ، فقل المدرّب : لا تكن مرتخياً يا يورا ، الفتيات ينظرن إليك في الأسفل . و قفزت . و كانت تجربة صعبة للغاية و لكنني نجحت . و بعد ذلك سألني المدرّب فيما إذا كنت أرغب بالتحليق معه بالطائرة . كان يتفحصني حتى يعرف هل يستطيع أن يعمل مني طيّاراً جيداً .
و تخرجت من كلية الهندسة بعلامة ممتاز . و كان بإمكاني الآن العمل في الإنتاج الصناعي أو الإستمرار في الدراسة .
كان مدرّب الطيران يطلب منا تطبيق كل التعليمات المعطاة لنا بدقة كبيرة . علينا تطبيق مقدار السرعات المطلوبة حتى الكيلومتر الواحد ، و مقدار إرتفاع الطائرة حتى المتر الواحد و اتجاه المسار حتى نصف الدرجة . و كنا نريد أن نصبح طيّارين عسكريين و بالذات طيّارين مطاردين للطائرات المعادية . و أدخلني المدرّب في تجارب طيران صعبة . ذات مساء ذهبت إلى المدرّب فلم يدخل معي الطائرة ، بل قال لي : حلّق بالطائرة لوحدك و اعمل دائرة في السماء . و عملت ذلك و هبطت في البقعة المحددة لذلك . وكان تعليقه : إنك فتى ممتاز ، تهانيّ .
و في اليوم التالي كتبت الصحيفة عني مع صورة لي و أنا جالس في قمرة الطائرة ، رافعاً يدي و منتظراً إشارة الإنطلاق . كنت سعيداً بخبر الصحيفة و فخوراً أيضاً . و حينما بعثت بالخبر إلى والديّ ، كتبت أمي إليّ قائلة : بالطبع نحن نفخر بك يا بنيّ ، و لكن إياك و الغرور .
و جاء وقت التخريج في نادي الطيران يوم 24 أيلول 1955 م و نجحت بدرجة إمتياز . بعض أعضاء نادينا إلتحق بالطيران المدني ، أما أنا فأردت أن أصبح طيّاراً حربياً . لماذا ؟؟؟ ربما لأنني شاهدت في طفولتي الطيارين الإثنين ، اللذين سقطا في قريتي . و كان يعجبني الزي العسكري و الانضباط العسكري . أردت أن أصبح مدافعاً عن وطني . و أرسلوني إلى مدرسة الطيران في أورن بورغ . و رافقنا المدرب مودعاً و قائلاً : المستقبل لجيلكم . أنتم ستحلقون في طائرات لم نكن نجرأ على الحلم بها .
و بدت لي مدينة أورن بورغ عجيبة ، لأنني كنت أرى الجمال و الخيول و غيرها في الشوارع .
على جدران المعهد في أورن بورغ كانت تتدلى صور مائة و ثلاثين بطلاً من أبطال الاتحاد السوفياتي تخرجوا من هذا المعهد . الآن بدأت حياتي كجندي ، و حصلت على البزّة العسكرية ، و كانت على أكتافنا إشارات الطيران الخاصة . و قد كنت فخوراً لانتمائي للجيش السوفياتي العظيم . كنت أشعر و كأنني في السماء السابعة .
و دائماً كنت أتذكر أسماء الأبطال من الطيارين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية . و في نهاية درس التاكتيك كان يجري بيننا نقاش حيوي . كل واحد منا كان له بطله الذي يقتدي به . و تكثر أسماء الأبطال مع كثرة أسماء الطلاب . كنا نهتم بأخبار البطولات الحربية .
( و تقول والدة يوري غاغارين في كتابها : أدى يورا القسم العسكري في يوم 8 ديسمبر 1956 فكتب له أبوه بهذه المناسبة قائلاً : تذكّر يا يورا شيئاً واحداً ، أينما كنت ، تذكّر أن الفلاحين و العمّال يحترمون الشرفاء و الشجعان كما أن السوفيات يكرهون الجبناء . لن ينتصر ضعفاء القلوب على أعدائهم ، لأنهم لا يثقون بقوّتهم و لا بقوّة رفاقهم و لايثقون أيضاً بالنصر . يقاتل العسكري الشريف عدوّه حتي الرمق الآخير و حتى آخر قطرة دم ، و يفضل الموت بشرف . إن الشرف العسكري هو شعور وطني عميق ... ... إن الشرف مثل شعاع الشمس ، يجب أن ينفذ إلى أعماق حياة الإنسان و دراسته و خدمته العسكرية . و يجب أن يسري حب الخدمة في دم الإنسان ) .
( و يقول غاغارين ) لقد عرفت أن أمي شاركت في كتابة هذه الرسالة ، لأنها كانت دائماً تكرر عبارة : حتى آخر قطرة دم .
وكان علينا القيادة والتحليق في الطائرات النفاثة . ولم أكن بحاجة لامتحانات القبول : لأني تخرجت بامتياز من كلية الهندسة ، ثم إن نادي الطيران منحني شهادة وتوصيات جيدة .
وهنا تعرفت على فاليا . و هي لم تخرج مرة واحدة في حياتها من مدينة اورن بورغ . وكانت منذ تخرجها من الصف العاشر تعمل في مركز البرقيات في المدينة . كان أبوها يعمل طباخاً وأمها كانت ربة بيت . وقرّ قرارهم أن تدرس فاليا التمريض في مدرسة طبية . ولدينا هوايات مشتركة : حب الكتب والتزلج على الجليد والغرام في المسرح .
في مدينة غاتسك لم يحدث أن شاهدوني في بزة عسكرية ، وعلى كتفي زخرفة برتبة عريف . وبدت المدينة وكأنها كبرت كثيراً . والداي أصبحا عجوزين و أنا أصبح عمري عشرين عاماً .
في عيد ميلادي عام 1957 أهدتني فاليا صورتين لها مع الكلمات التالية : الانتظار فن عظيم . نحن الاثنين قدرنا واحد . حافظ على هذا الشعور الجيد حتى حلول اللحظة الأسعد .
وطرت في طائرة ميغ وهي أصعب من طائرة JAK - 18 . كنت قصير القامة . و لهذا السبب وضعت وسائد ( مخدّات ) على الكرسي حتى أستطيع الهبوط بشكل أفضل . و اقتربت مواعيد الامتحانات النهائية و لأيام عديدة لم نخرج من المطار . في هذه الأثناء حدث شيء هزّ العالم : إطلاق سبوتنيك الأول ، أول تابع للأرض ، سوفياتي الأصل .
وكنا في هياج وإنارة وتساءلنا ماذا بعد ؟؟ وكان نقاشنا صاخباً حول من سيكون رائد الفضاء الأول : هل سيكون أحد علماء أكاديمة العلوم السوفياتية ؟ أم هو مهندس ؟ عالم أحياء ؟ أم أحد بحّارة الغواصات ؟ أنا كنت أقول : يجب أن يكون طياراً مدرّباً .
ومن نسج خيالنا و من قصص الخيال العلمي ، أخذنا نرسم شكلا ً لسفينة فضاء مأهولة .
وأخذ علماء العالم يتحدثون عن هذا السبق التاريخي وعن مستقبل غزو الفضاء وسيناريوهاته .
وجاء يوم عيد ميلادي الثاني حين حصلت على وثيقة تقول :-
إننا نقترح أن تلميذ الطيران يوري أليكسوفيتشن غاغارين يترقى إلى رتبة ملازم ، فهو أثناء تعلمه في مدرسة الطيران أظهر انضباطيته ووعياً سياسياً . كما أنه يعرف قوانين الجيش السوفياتي و سار على هديها . وهو في التدريب والرياضة ... إلخ .
هذه الوثيقة هي التي فتحت لي الطريق الى الطيران و مرّة أخرى شعرت أنني في السماء السابعة :- وافقت فاليا على الزواج مني ، واتفقنا على الاحتفال بزواجنا مرتين : مرة في اورن بورغ بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأربعين لثورة اكتوبر الاشتراكية ومرة أخرى في مدينة غاتسك . كانت قد انقضت سنتان على تعرفنا على بعضنا البعض .
في 3/11/1957 اطلق إلى الفضاء ، سبوتنيك الثاني وعلى متنه الكلبة " لايكا " ، أول كائن حي يدور حول الأرض في مركبة فضائية
في اليوم السابق للأحتفال بالذكرى الأربعين لثورة أكتوبر الإشتراكية ، أعلنت أسماؤنا كضباط في الجيش السوفياتي مع لقب طيار عسكري . واحتفلنا بعيدين : عيد الترقية وعيد ثورة أكتوبر .
وأثناء حفلة زواجنا فتحنا المذياع وسمعنا صوت خروتشوف المحبوب يقول : قمران سوفياتيان يدوران حول الأرض . وعلقت فاليا بقولها إن الرفيق خروتشوف يشاركنا زفافنا .
الآن أنا طيار مقاتل وأنا ضابط ، ولديّ زوجة تحبني ولأول مرة في حياتي لدي غرفة خاصة . وغادرت المعهد بعلامة إمتياز . ما العمل الآن ؟؟؟؟
استطيع السفر الى الجنوب أو البقاء في اورن بورغ . ولكنني قررت الذهاب والعمل في المكان الأصعب : الى الشمال ، في قاعدة زابوليار العسكرية في منطقة القطب الشمالي ، حيث الظروف أكثر خشونة وصعوبة ، حتى فاليا لم تستطع فهم دوافعي . لقد أرعبها هذا القرار . و اتفقنا أن تبقى هي في أورن بورغ حتى انتهاء دراستها ، ثم تلتحق بنا في الشمال . ولأننا كنا ضباطاً فقد جلبنا انتباه الجميع هنالك ، الذين كانوا ينظرون إلينا ويتساءلون : ماذا يفعل هؤلاء الحمقى هنا ؟
والتدريب هنالك في الظروف الصعبة ، كان يتطلب شجاعة وإرادة و نباهة . قال مدرّبنا : يجب على المرء أن يعمل حسابات دقيقة و أن يضع ثقته في هذه المعدات ، وبالطبع لا يجب السيطرة فقط على الطائرة وإنما أيضاً على الأعصاب . في طائرة حربية ، فإنك أنت الإله والقيصر والطيّار والحارس ، كلهم في شخص واحد . و ذات يوم مررتُ في تحليق صعب وخطير ، ولكنني نجحتُ في الهبوط سالماً وجاءني مديح قوي من المدرّب .
في منتصف أيار 1960 أطلق سبوتنيك الثالث وهو أكبر حجماً وأثقل وزناً من الأول و الثاني .
وتناقشنا فيما بيننا حول هذه التطورات نقاشاً صاخباً و أدركنا أن أول طائرة بنيت بعد قرون من تحليق أول بالون في الهواء . و بعد ذلك ب 75 سنة ( أي نصف الفترة بدأنا بإطلاق أول قمر صناعي . والآن خلال أشهر ثلاثة أقمار صناعية . بمثل هذه الوتيرة من التطور فإنه لن يمرّ وقت طويل حتى يحلق إنسان في الفضاء الكوني . دار سبوتنك الأول 1400 مرة حول الأرض بينما دار الثاني ألف دورة وقطع طريقاً تزيد على مائة مليون كيلومتر . وأدركنا بالطبع بأن كل هذا ما هو إلا تحضير لتحليق الإنسان في الكون .
انهت فاليا دراستها و في آب 1958 التحقت بنا في الشمال . فصل الخريف قصير و وصل الشتاء بعده وابتدأ الليل القطبي الطويل . فاليا وأنا كنا نراقب الشفق القطبي ، الذي كان يسود نصف السماء . كان الشفق القطبي يعمل مسرحاً سماوياً رائعاً . و في المساء كنت أزور جامعة مسائية لدراسة الماركسية اللينينية .
في الثاني من يناير 1959 أطلق السوفيات صاروخاً متعدد المراحل باتجاه القمر . لقد كان حدثاُ يرمز إلى حقبة كاملة . لقد دخل الإنسان غمار الكون .
كان هذا هدية بمناسبة انعقاد المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي . وقال خروتشوف في بيان للمؤتمر : إن أول قمر صناعي في النظام الشمسي هو سوفياتي الصنع ، وفي أعماق الأعماق في الفضاء ، كان يحمل على متنه و بكل افتخار شعار الإتحاد السوفياتي والعبارة التالية : اتحادات الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية / يناير 1959 " .
وفي هذه الأيام قدمت طلباً للإنضمام للحزب الشيوعي السوفياتي و جاءت توصيات عديدة لترشيحي لهذه العضوية . و في أوائل نيسان 1959 ولدت فاليا طفلة أسميناها Lenotschka لينا . وأخذت التحليقات الجوية منحى أكثر صعوبة : نطير مساء فوق بحر هائج ، ونحن على أهبة القتال كما هو مطلوب في المعارك الجوية . وقال مدرّبي ذات مرة : " لقد أصبحت قوياً أيها الأخ " . و مما ساعد على نجاحي هو ممارستي لأنواع عديدة من الرياضة : مثل كرة السلة و التزلج .
وعندما أصبحت عضواُ في الحزب أسندت إليّ مهمة تحرير نشرة " الكفاح " ، و هي تتحدث حول نجاحات الطيارين و انتقاداتهم ... و تربط كل ذلك بالأحداث السياسية في بلدنا .
حدثان هامّان أجبرا العالم على الإصغاء في عام 1959 : رحلة خروتشوف إلى الولايات المتحدة و كذلك إطلاق صاروخ باتجاه القمر .
كنت أقرأ كل ما يجيء في الصحافة حول هذه الرحلات الفضائية . وشعرت بنفسي منجذباُ بشكل لا يقاوم إلى الكون الخارجي . وفكرت جدياً بكتابة رسالة ، من أجل قبولي مرشحاُ للتحليق في الفضاء الكوني . وبدأت أفهم الآن أنه عليّ ألا أتأخر بتقديم هذا الطلب وأن التحق بمجموعة رواد الفضاء . ولم أكن مخطئاُ : فقد دعوني لمقابلة اللجنة الطبية . وكانت الفحوصات بشكل غير عادي وعلى الأخص فحص العيون ، حيث أن العلامة يجب أن تكون كاملة : لا إنحراف ولا حساسية بالألوان ، ثم إن الرؤية يجب أن تكون كاملة . و تتالت الفحوصات الطبية من قبل اختصاصيين آخرين . و وضعونا في أجهزة دوّارة للفحص حول الكلى والقلب . واجتزت المرحلة الأولى ولم أفقد الأمل . و لم أخبر فاليا بذلك ... كانت تعتقد أنني سافرت لإنجاز مهمة روتينية . والحقيقة أنني كنت قلقاً حول إمكانية قبولي : قامتي قصيرة ، ولست قوي البنية كالأخرين . ثم وصلتني رسالة ثانية طالبين حضوري للجنة الطبية . و استمرت الفحوص الطبية والنفسية : كانوا يبحثون عن نقاط ضعف مخفيّة ويدرسون ردود الفعل على كل المؤثرات .
وضعونا في غرفة الضغط وتحت مختلف درجات من ضغط الهواء المنخفض وفحصوا التنفس بالأكسجين تحت ظروف الضغط المرتفعة وأداروا أجسامنا في كاروسّل Centrifuge والتي تدور كأرجوحة الخيل . وفحصونا على قوة الذاكرة ودرسوا سيرة حياة عائلتنا بالكامل وأيضاً حول مستوانا الثقافي والإجتماعي . كان مطلوباُ منا : الحماس والذكاء والأعصاب القوية والإرادة الحديدية والصمود والحيوية وحب الحياة و حضور البديهة . و استمرت الفحوصات عدة أسابيع ، وكان إسمي من الطيّارين المرشحين .
ثم دعيت مجموعتنا للمثول أمام الآمر الأعلى للقوات المسلحة الجوية ، شارك فيها العديد من الجنرالات . وشاهدت هنالك واحداً من أوائل أبطال الإتحاد ا لسوفياتي :Nikolai Perowitsch Kamanin . ولأول مرة سنحت لي الفرصة للتحدث مع قائد القوات الجوية المسلحة في الإتحاد السوفياتي . و في نهاية اللقاء قال لنا : إن الوطن يعتمد عليكم .
تركت فرقتي العسكرية وودعت رفاقي وذهبت الى مكان عملي الجديد . وبدأت بالنسبة لي حياة جديدة ومهمة . وفي عيد ميلادي السادس و العشرين ( آذار 1960 ) أخبرت فاليا بأن وظيفة جديدة تنتظرني و أنه علينا الانتقال إلى وسط البلاد . وتأقلمنا بسرعة على جو العمل في الموقع الجديد . في البداية كان التركيز كثيراً على تعويدنا لما ينتظرنا في الكون و التعرّف على العوامل المؤثّرة على وظائف الأعضاء . و كل هذه العوامل يمكن وضعها في التصنيفات الثلاثة التالية :
المصدر:
المجلة الثقافية/الجامعة الأردنية 56/58 ( 2002 )