يا حي يا قادر .. فك أسر مصر

2
0

يا حي يا قادر.. فك أسر مصر
د. علياء رافع

للفن عامة وللدراما خاصة تأثير قوي على الوجدان البشري، وهو ما يجعل الفن رسالة هامة
للغاية، قد ترفع الإنسان إلى أعلى مستوى روحي ومتعة وجدانية، تزرع فيه الأمل وحب الخير، وقد تهوي به إلى مستويات دنيا، تؤثر عليه سلبا، قد تصيبه بالاكتئاب أو الاحباط أو اللامعني. ومن حين لآخر نلتقي بهذا الفن الراق الجميل، ومسلسل الخواجة عبد القادر أحد تلك المسلسلات التي تجعلنا نعيش في حالة تأمل وتطلع إلى الصفاء النفسي والروحي الذي يجعل من "الخواجة" رجلا محبوبا، على عكس أغلب الأعمال الدرامية السابقة التي كانت تجعل الخواجة سطحيا أو مخادعا أو مستهترا بالثقافة الشرقية والإسلامية. إذن هناك رسالة مضمنة في تجسيد شخصية "عبد القادر" الخواجة بهذا الصفاء، وهذه الرغبة الفطرية البسيطة التي تدفعه إلى حب الله، تؤكد هذه الرسالة أن القلب المؤمن لا يعرف جنسا أو لونا أو قومية، وهذا في حد ذاته خروج من الرؤية الضيقة للدين الذي يعطي العرب أفضلية على خلق الله، لأن القرآن الكريم نزل بلغتهم، ولأن رسول الله قد ولد من بينهم. فهم يأخذون هذا الواقع لصالحهم، ويتناسون أن الرسول رحمة للعالمين، وليس للعرب فقط، ويتجاهلون قوله (صلعم) أنه لا فضل لعربي على أعجمي أو أعجمي على عربي إلا بالتقوى.
وأما الرسالة الثانية التي نقرأها في هذا المسلسل الفرق الشاسع بين إيمان قائم على نور القلب، وبين إدعاء الإيمان الذي يركز على الشكل دون الجوهر. فهذا الشيخ الذي التقي به عبد القادر في السودان، كان دينه ممارسة للحياة الطيبة وللمحبة الخالصة للبشر والسلام مع النفس والسلام مع الناس. وأما ذلك الشيخ الذي التقى به الخواجة في مصر، فإنه لا يهتم بحب الخير ولا العطف على البشر، ولكنه يتباهي بتمكنه من القواعد الشكلية الحاكمة للعبادات، دون أن يترك هذا العلم أثرا في نفسه، وبدلا من أن يجعله رحيما، فإنه لا يبالي بالجلد والتعذيب الذي يحدث أمامه لفتى فقير، اعترف بأنه سرق مبلغا زهيدا من المال. ولكن الخواجة الذي ليس من ملة أو جنس أو بلد هذا الفتي، يسارع بمحاولة درأ مزيد من التعذيب عليه، ويدفع لصاحب المال ما سرقه الفتي الصغير.
هذه اللمحات البسيطة في مسلسل، أمامه العديد من الحلقات حتي يتم، تشير إلى أن ما تقوله الدراما، قد تعجز عن قوله عشرات الخطب، وعشرات المقالات، والمناظرات. إن إيقاظ إنسانية الإنسان من خلال مثل هذه المسلسلات لهي كفيلة أن تكون درعا واقيا لانتشار الفكر الوهابي الذي يدعي السلفية أو الأصولية. أقول يدعي السلفية والأصولية لأن كل من ولد في بيئة الإسلام، لا يستطيع ولا ينبغي له أن يرمي وراء ظهره تجربة الأقدمين، بل لا بد أن يحترم جهاد من سبقه على الطريق، ويستفاد منه، ولكن لا ينبغي على الإطلاق أن نقف عند ما وصل إليه من سبقونا، وإنما علينا أن نجدد ونتجدد دائما لنضيف، ونكشف ما غاب عن السابقين، ونترك الفرصة للقادمين بعدنا أن يستفيدوا ويضيفوا ويعدلوا بدورهم. من هذا المنطلق يصبح كل ملتزم بتاريخه وتراثه سلفيا أصوليا، ولكن ليس بأي حال من الأحوال منغلقا أو متجمدا، أو مدعيا أنه قد وصلة إلى قمة المعرفة.
الخطورة في الفكر الوهابي السلفي أو غيره من الاتجاهات والتيارات الدينية أنها قد حولت الدين إلى قوالب فارغة بدون روح، وأتخذت من الوسائل غايات، وهكذا وقعت فيما وقع فيه الكثيرون الذين حولوا الصالحين إلى آلهة، والأنبياء إلى أرباب. هؤلاء قد حولوا العبادات التي هي وسائل لتطهير النفس إلى غايات في حد ذاتها، فأكثروا من الحديث عن كيفية أدائها، وأهملوا ما تحمله من معاني، يحييها الإنسان عندما يتفتح قلبه إلى الله، فيتخذها وسائل عظيمة تقربه إلى الله. وأعظم ما فيها أنها تحمل الرحمة والمحبة التي أسبغها الله على عباده، لأن إرادته بهم خير، ومحبته لهم نور، فهو لم يتركهم يتخبطون أو يجاهدون كي يقتربوا منه، ولكنه أعطاهم الوسيلة، ونظمها لهم. إذا فكر الإنسان من هذا المنطلق لخر ساجدا حامدا شاكرا لفضل الله عليه. كان هذا إدراك عبد القادر الذي أحب القرآن الذي تنزل بلغة لم يحيدها ولا يعرفها، لأنه كان بالنسبة له الوسيلة التي عبر الله بها عن محبته للإنسان. ولم يخجل من أن يذهب إلى الكتاب مع الأطفال ليستمع إلى القرآن.
أحب الخواجة شيخه الذي كان سببا في تفتح قلبه للإسلام، ولم يكن يريد أن يتركه، ولكن المهمة التي كان ينبغي عليه أن يقوم بها كانت ضرورية، هكذا أدرك الشيخ، ولذا شجعه أن يقبل السفر إلى المحروسة، ويترك السودان، ولكنه طمأنه وعلمه أن يقول دعاء كلما اشتد به الحنين، أو وقع في المشاكل، كان الدعاء الذي علمه الشيخ للخواجة أن يقول "يا حي يا قادر فك أسر عبد القادر". لا شك أن الشيخ قد شعر بالبصيرة والحدس أن هذا الخواجة المسلم سيقابل الكثير من المحن، ولكن الدعاء دائما يفتح للإنسان باب الأمل، ويساعده على سلام النفس ونقاء الفكر، مما يمهد للإنسان قدرة على الرؤية واتخاذ القرار الذي ينقذه من المحنة. لا شك أن هناك الكثير مما سيقابله الخواجة من المشاكل والمواقف الغريبة والعجيبة. ولا شك أن كل موقف أو مشكلة تعبر عن رسالة يريد المؤلف ان يرسلها إلى المشاهد. ولكن الرسالة الواضحة هي أننا نقف في مفترق طرق بين اتجاه يحول الدين إلى شكل وحرف، واتجاه آخريبحث عن معنى الرسالة السمحاء التي أفاض بها الله على عباده، ويتفاعل معها بالحمد والشكر، ويتفتح قلبه إلى ما وراء الشكل من رسائل متجددة وحديث متصل مع الله سبحانه وتعالى من داخل القلب والبصيرة. اتجاه مشغول بالحكم على البشر، منهمك في تكفير من لا يماثله في الرؤية، واتجاه مشغول بنشر الخير والمحبة والسلام من خلال كل قناة ممكنة أو متاحة. اتجاه يريد أن يحول الشريعة إلى حدود يجب أن تطبق، واتجاه يرى الشريعة منهج للتطهر وتزكية النفس وصلاح الإنسان. أي الطريقين سنختار، قد لا يكون أمامنا إلا أن ندعو: "يا حي ياقادر.. فك أسر مصر" من كل من يريد أن يقيدها في أغلال من الظلمات. إن الله على كل شيء قدير.
نشرت هذه المقالة في نهضة مصر 31 يوليو 2012

 

إضافة منذ 13 عام
ahm3dss
280
غير محدد

التعليقات

زغباوية منذ 13 عام
شدتني المقالة مع انى مش متابعة لأى مسلسل فى رمضان بس شوقتنى لان اتابعه بعد رمضان

توضيح بسيط:
معنى صلعم:
اختصار الجملة « صلى الله عليه وسلم »
zedony.com - A mmonem.com production. Privacy Policy