لقد ارتبط وجود المعارضة بوجود الانسان كونها تزامنت في نشأتها مع اللحظات الاولى التي قرر الله سبحانه وتعالى ان يجعل له خليفة على الارض حيث تجسدت في ذلك الرد الاعتراضي المؤدب والحريص على الافضل الذي صدر عن الملائكة على اثر الحوار الذي تعمده الخالق عز وجل معهم عندما أوشك ان يخلق بشراً من طين وينفخ فيه الروح ليكون هو خليفته على الارض.
وقد اراد الله سبحانه وتعالى من خلال ذلك الحوار تعليم الانسان قواعد ومبادئ آداب المعارضة البناءة التي تمثلت تحديداً في غاية الملائكة من الاعتراض وهو ان يكون اختيار الخليفة مبنياً على الافضل لكي لايفسدوا في الارض ويسفكوا الدماء دون وجه حق كما حدث مع المستخلفين من قبلهم والذين لايعلمهم الا الله الكامل المطلق، وتلك الغاية هي نفسها التي منعتهم من الاستمرار في الاعتراض وتسليمهم بأفضلية خلق الانسان بعد ان شاهدوا البرهان القاطع على تلك الافضلية بما أوحى الله به الى آدم عليه السلام من علم المسميات التي عجزت الملائكة عن تسميتها.
وبالمقابل كانت المعارضة الهدامة قد تجسدت في خروج أبليس عن اجماع الملائكة واستمراره بالاعتراض وعدم تسليمه بأفضلية خلق الانسان على الرغم من ظهور الحقيقة وقد كان لاستمرار أبليس في الاعتراض حكمة آلهية الغرض منها ايقاع آدم عليه السلام في الخطيئة وعصيان أمر ربه ومن ثم وجود المبرر المنطقي الذي يتوافق مع العقل الذي كرم الله به الانسان عما سواه من المخلوقات لخروجهم من الجنة وهبوطهم الى الارض وفقاً لمشيئة الله عز وجل في الاستخلاف، ولكي تتحقق الحكمة الالهية من خلق الانسان واستخلافه على الارض كان لابد من وجود كل المتناقضات كالخير والشر..الحق والباطل.. الحياة والموت.. الهدى والضلال.. الايمان والكفر.. النور والظلام.. العلم والجهل.. العدل والظلم.. التقدم والتخلف.. الحرب والسلام.. الاحتلال والمقاومة.. الديمقراطية والديكتاتورية.. السلطة والمعارضة.. المعارضة البناءة والمعارضة الهدامة وحتى تصبح كل تلك التناقضات احدى آيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته وعظمته وصدق كلامه ووعده المذكور في مختلف كتبه السماوية في كون الحياة على الارض مؤقتة وفانية كما كان لها بداية لاشك سيكون لها نهاية لايعلمها الا هو سبحانه المتنزه عما سواه وان الآخرة هي الحياة الابدية الخالدة والخالية من كل تلك المتناقضات فإما جنة ونعيم لاينقطع أو ينتهي واما نار حارقة لاتبقي ولاتذر.
وهكذا يتضح لنا بصورة جلية ان الانسان والمعارضة البناءة بينهما علاقة طردية ازلية ولايمكن للحياة على الارض ان تستقيم بأحدهما دون الآخر فلولا الانسان ماوجدت المعارضة البناءة ولولا المعارضة البناءة ماوصل الانسان الى ما وصل اليه من وعي ورقي وتقدم في شتى جوانب الحياة المختلفة وكلما ازداد اتساع هامش المعارضة البناءة في أي مجتمع كلما كان ذلك مؤشراً فعلياً على ارتفاع نسبة الوعي والمعرفة لدى الافراد ومن ثم مقياساً لمستوى التقدم الذي وصل اليه ذلك المجتمع.
والمعارضة البناءة منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام وحتى يرث الارض ومن عليها، سيظل منهجها ووسائلها وغايتها هي ذاتها في كل زمان ومكان لا تتغير او تتبدل مهما تغيرت المسميات.. فالمنهج الذي تتبعه أية معارضة بناءة في أي بلد ديمقراطي هو الحوار ولاشيء غير الحوار ويكون غايتها من ذلك الحوار الوصول الى الحقيقة بغية تحقيق الافضل للمجتمع الذي تندمج فيه، وأما وسائلها فتتمثل في الكلمة الصادقة والوعي والعلم والمعرفة.
ولن تتحقق المعارضة البناءة في أي مجتمع الا اذا بدأ افراد ذلك المجتمع ممارستها مع أنفسهم قبل ان يمارسوها مع غيرهم للتخلص من عبادة الذات وحب الأنا ولن يتم ذلك الا عندما يذوب وينصهر كل ماهو ذاتي وشخصي في كل ماهو موضوعي وتنتهي مصلحة الفرد امام مصلحة الجماعة اما اذا ظلت عبادة الذات وحب الأنا هي المسيطرة على الفرد فلا يمكن له بأي حال من الأحوال ان يمارس المعارضة البناءة وعلى العكس من ذلك ستلبسه المعارضة الهدامة ذلك لان عبادة الذات وحب الأنا تعني ان يمتلك الانسان العلم المطلق والحقيقة الكاملة والمعرفة الشاملة وهذا مايتعارض مع حقيقة خلق الانسان في كونه نسبي وليس مطلق الصفات لان الكامل المطلق هو الله جل شأنه واما الانسان فهو عبارة عن خليط من المتناقضات وفي حالة نقص دائم واحتياج مستمر الى الآخر.
الكاتب/ طلال عبده الجندي