في قوله تعالى: أَنْزَلْنَاهَا [النور:1]: نزل الشيء إذا انحط من مكان عالٍ إلى ما هو أسفل منه. وفي قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) إشارة إلى مَن أنزل وإلى الشيء المنَزَّل، فالمُنْزِل هو الله، وعبَّر بضمير الجمع إشارة إلى التعظيم والتفخيم، والعرب تستخدم أسلوب الجمع أو ضمير الجمع للمفرد على سبيل التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل المفرد: نحن فلان، أو نحن فعلنا، أو نحن قلنا، كل ذلك على سبيل التعظيم، والله خليقٌ بذلك، فهو المنزِّل سبحانه وتعالى. والضمير الأخير في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) عائد إلى السورة، وفي هذا دليل على علو الله تبارك وتعالى وفوقيته على خلقه خلافاً لمن زعم رد الفوقية، ومذهبُ السلف الصالح رحمة الله عليهم: إثبات الفوقية لله لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تبارك وتعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وهنا أشار إلى ذلك ضمناً في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا)، كما أشار إلى هذه الصفة ضمناً في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، والأحاديث في الدلالة على هذه الصفة مستفيضة واضحة.
وفي قوله سبحانه وتعالى: أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]: (الواو) للعطف، أي: كما أنزلناها فرضناها، وفَرَضَ الشيءَ بمعنى أوجبه، وقيل: فَرَضَ بمعنى قَطَع، ومنه فرضة السهم. وقوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبناها، وهناك قراءتان: - (فَرَّضْنَاهَا): بالتشديد. - و(فَرَضْنَاهَا): بالتخفيف. واختلف العلماء رحمهم الله في المعنى: فقيل: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبنا على العباد تحليل حلالها وتحريم حرامها، وهذا هو قول مجاهد بن جبر رحمه الله تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما. والقول الثاني في قوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: بيَّناها وأوضحناها، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وفي قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) أي: فرضنا على العباد علمها، وقد اختار بعض العلماء رحمهم الله الجمع بين المعنيين، وهو قول الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه، فقد اختار أن قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) المراد كلا الأمرين: أي أوجبنا على العباد إحلال حلالها وتحريم حرامها، وبيَّنَّا لهم فيها الأحكام والشرائع.
التعليقات