يكتم الجميع أنفاسهم انتظارا لمن سيكون رئيس الجمهورية القادم، وكل من أيد مرشحا يتمنى بالطبع أن يكون مرشحه الفائز، ولكنني أطرح سؤال "من هو رئيس الجمهورية القادم، ليس من منطلق ترجيح فوز مرشح على مرشح آخر، أو الدعاية لمن أتمنى أن يفوز، ولكن فقط لألفت النظر أن مجيء الإخوان المسلمين من خلال مرشحهم محمد مرسي للحكم سيكون ردة سنقاسي من جرائها الأمرين. وعلى الرغم من الدعاية المكثفة التي يقوم بها الإخوان، والمبالغ الطائلة التي تنفق هنا وهناك، فإنني أتوقع أن يكون الشعب المصري هذه المرة أكثر وعيا بعد أن كشف الإخوان من خلال أدائهم في مجلس الشعب عن مناوراتهم السياسية التي لا تستهدف شيئا إلا مصلحتهم الذاتية، واستهانوا بدماء الشهداء الذين لم يكونوا أيديولجيين ولم يتطلعوا إلى شيء قدر تطلعهم إلى حياة حرة كريمة. ومن ناحية أخرى فإنه يفزعني إلى حد الرعب أن أجد دعوتهم تعتمد على ترهيب الناخبين بالزعم أن انتخابهم واجب شرعي لأنهم يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، أو القول أن عدم اختيارهم سيكون مسئوليته أمام الله عز وجل. إن مجرد هذه الأقوال إن دلت على شيء فإنها تدل على المناخ الذي يمكن أن نعيش فيه بعد أن نقع تحت سيطرتهم. أما العبارات الناعمة والأقوال الفضفاضة التي يستخدمونها إلى أن يتمكنوا فإنها لا تخدع إلا السذج.
وكم قلت مرارا وتكرارا أن الخلاف مع الإخوان المسلمين لا شأن له بالاختلاف حول أن تكون المرجعية الإسلامية أساسا نسترشد به في بناء مجتمعنا. ولن يختلف – حتى الليبراليون أو الاشتراكيون – حول الهوية الحضارية لمصر من حيث أن الإسلام مرجعية أساسية للتاريخ الحضاري المصري. بل أذهب إلى حد القول أن المصريين جميعا من كل الاتجاهات والأيديولوجيات السياسية يؤكدون أن الحضارة الإسلامية تشكل عنصرا أساسيا في تاريخنا العربي والمصري وأن الإسلام استطاع أن يتفاعل مع كل ما سبقة من حضارات تفاعلا إيجابيا إنسانيا، استطاع أن يرتفع بتلك الحضارات إلى الذروة، دون أن يمحوها، وبالتالي مثلت الحضارة الإسلامية تحولا هاما في تاريخ الإنسانية، وأصبحت الأساس الذي بنت عليه أوروبا نهضتها. لا أحسب أن هذه الرؤية يمكن أن يختلف عليها المصريون جميعا، أيا ما كانت انتماؤتهم.
ولهذا فإن الإخوان المسلمين لا يتميزون بما يدعون أنهم يتميزوا به، ألا وهو أن يكون الإسلام مرجعية ضرورية لبناء مستقبل مصر، ولكن استخدامهم في حملاتهم الانتخابية للشعارات الإسلامية، إذا كان يدل على شيء، فإنه يدل أنهم يبيعون الدين من أجل نجاحهم السياسي، وهو ما يجعلنا نشعر بالخطر المحدق بنا، ولنا في التجربة الإيرانية سابقة، وكذا في التجربة الباكستانية والسودانية وغيرها.
وإذا كنت قد أكدت أن الإسلام أساس حضاري، فإنني أعني بهذا ما قدمه الإسلام من قيم إنسانية أعلى فيها من قيم الحرية واحترام الكرامة واحتواء كل ما سبقه من دعوات وديانات، مؤكدا قيمها وداعيا إلى الكلمة السواء، ونبذ الخلاف والتعاون على البر والتقوى. ولهذا نص الدستور المصري في مراحل مختلفة أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، أي بعبارة أخرى أن مقاصد الشريعة التي هي محل اتفاق عام، يجب أن تكون هاديا لبناء تشريعي قانوني متماسك، وليتنافس أساتذة القانون في إرساء وتحسين وتطوير النظام التشريعي ليكون محققا لهذه المباديء. أما إذا اختزلنا الاجتهاد القانوني إلى تطبيق حرفي لبعض الأحكام، فإن هذا لا يعني فقط أننا نكون قد خرجنا عن مسار التاريخ، بل إنه يعني كذلك أننا ضربنا بتعاليم الإسلام عرض الحائط، لأن سيرة الرسول قد أعطتنا أكثر من مثل في المرونة وتوخي مصلحة البلاد والعباد، وكانت الأحكام كلها تعبيرا عن تأكيد القيم الضرورية التي لا يستقيم وجود المجتمع إلا بها، وليس تطبيقها هدفا في حد ذاته، ومن هنا جاء قول الرسول ادرءوا الحدود بالشبهات.
ومن ناحية أخرى فإن تمسكنا بالسلف لا يعني على الإطلاق تقديسهم، ولكن الاستفادة من جهدهم في حدود ما ينفعنا الآن في هذا الوقت الذي تغيرت فيه طبيعة المجتمع وتشابكت وتعقدت العلاقات فيه. وكذلك لا يعني التمسك بتطبيق الشريعة أن نسجن أنفسنا في فهم مجموعة من البشر للآيات المنزلة، وأن يزعم أي من البشر أن فهمه للنصوص المقدسة مقدس. أحسب أنني لا أقول جديدا، لقد تبنى هذه الرؤية علماء أجلاء مثل الشيخ محمد عبده، وشيخ الأزهر الحالي فضيلة د. أحمد الطيب. ومع ذلك لا أميل أن تحتكر أي مؤسسة فهمها للدين في منع اجتهاد مفكرين وعلماء في مجالات أخرى. ليكن حق الاختلاف مكفولا، والحوار متاحا، والتعبير عن الرأي حرية مصونة. فهذا ما يعطي مناخا صحيا لنمو ما هو أفضل وأنفع للناس. وأما إخراس الألسن، واحتكار الخطاب تحت زعم "المرجعية الدينية الواحدة" أو حتى "المؤسسة المعتمدة دينيا (الأزهر)" سيعود بنا حتما القهقرى ويدخلنا في ظلمات من فوقها ظلمات، تبعدنا عن تحقيق النهضة التي تتطلع إليها الملايين أثناء الثورة. لقد مضت وولت تلك العصور التي اعتقد فيها الناس أن هناك من يعبر عن "الحقيقة"، وأصبح العالم قادرا اليوم على استيعاب فكرة "التعدد"، ليكون ما يجمع البشر الهدف الواحد وليس الفكر الواحد. والهدف الواحد الذي يحق للعالم أن يجتمع عليه أن يكفل لكل البشر على هذه الأرض حياة إنسانية خالية من الاستغلال والقهر، وأن يكون الإنسان حرا من الإذلال والعبودية لسلطة الحاكم أو المال أو سيطرة جنس على جنس آخر. إن الهدف الذي يحق أن تجتمع البشرية عليه أن يدرك الإنسان أن معنى إنسانيته لا يتحقق إلى عندما يدافع عن حق غيره كما لو كان يدافع عن حقه في الحياة، ذلك أن الإنسانية وحدة واحدة لا تتجزأ. أحسب أن كل رسالات الأرض قد سعت لترسيخ هذا الحق، ولايعقل أن تكون سببا للحروب والقهر والإذلال.
من هو رئيس الجمهورية القادم؟ إنه رئيس استعد للشهادة من أجل الحرية، ولذا فإنه يضع دم الشهداء أمامه دائما كي يستلهم روح مصر ويضع نصب عينيه الأمل الذي من أجله استشهد من استشهد وعاش من عاش ليتحقق. لن يكون رئيسا يلعب سياسة على حساب مصلحة الشعب، ولكنه ذلك الذي يجعل مصلحة المصريين وتحقيق آمالهم وأحلامهم هدفه الرئيسي. إنه رئيس شجاع لا يضع الشعب في مواجهة مع القوة العسكرية، ومع ذلك يكون قادرا على ايقاف هذا التعسف والظلم الذي مارسه المجلس العسكري في الفترة السابقة، وأن يمنع المزيد منه، ولذا لن يكون أرجوازا في يد العسكر. إنه ذلك الرئيس الذي يستطيع أن يوجد التوازن بين الكرامة الوطنية التي لا يجب أن يخدشها أي شيء، وبين التوازنات الدولية العالمية في مجتمع دولي لا يمكن أن تسير فيه دولة بمعزل عن المتغيرات المعقدة على المستوى العولمي. إنه ذلك الرئيس القادر على إدارة المعضلة الإقليمية بين الفلسطينيين وإسرائيل بإبداع سياسي، لا يتهاون فيه عن أهمية وضرورة قيام دولة فلسطينية، وفي نفس الوقت لا يتهور بإطلاق شعارات سياسية جوفاء يستعدي فيها العالم ضد الشعب الفلسطيني وضد مصر، مثلما فعلت حماس. إنه ذلك الرئيس الذي يشعر بنبض جموع المصريين، ويبادر لوضع سياسات تحقق أحلامهم في حياة حرة كريمة.
أدعو الله أن يكون الرئيس القادم به بعض من هذه السمات، إن لم يكن كلها. وأؤمن أنه في كل الأحوال فإن مصر مصونة برعاية الله، وأننا طالما أدركنا هدفنا وطريقنا، فإننا لن نترك الحكام يلعبون بمصيرنا مرة أخرى. شعب مصر قوي وروح الثورة ستعيش مهما حاول الظالمون أن يقتلوها، لأن الله قد أظهرها ورعاها ولن يتخلى عنها، ويبقي أن يقوم كل منا بدوره ليحفظ عطية الله لنا، إذ أنه بالعمل وحده نكون مهيئين لاستقبال الرعاية الإلهية.
نشرت هذه المقالة اليوم 22 مايو 2012 في جريدة نهضة مصر
بقلم استاذتي ومعلمتي و أمي الروحية الدكتورة علياء رافع