فرانكلين لامب باحث أمريكي متخصص بالشرق الأوسط يقيم في بيروت ويكتب مقالات لكبريات الصحف الأمريكية وهو من القلائل الذين لايجاملون إسرائيل. أشجع الجميع على قراءته رغم الطول.
كتب: د. فرنكلين لامب
ترجمة: زينب عبدالله
بيروت
الشعب المصري يطالب باستعادة سيادته. فبحسب استطلاعات رأي أجريت مؤخّراً، يؤمن المصريّون بأن الدكتاتورين اللّذين خلفا عبد الناصر، وهما أنور السادات وحسني مبارك، قد تنازلا عن السيادة المصرية لـ"إسرائيل" جزئيّاً بناءً على توصية الإدارات الأميركية المتتالية بدءاً بالرئيس "نيكسون" ووصولاً إلى "أوباما".
وعلى ذلك، فإن إزالة القيود الثلاثة المذلّة للمصريين، والمتمثّلة بمخطّط وهب الغاز الطبيعي، واتفاقيّة "كامب ديفيد" الموقعة عام 1979، والإعتراف بـ"إسرائيل" المفروض أميركياً، تشكّل هذه الأمور مجتمعةً هدفاً استراتيجياً على صعيد الأمن القومي بالنسبة للسواد الأعظم من 82 مليونا من المواطنين المصريين. فبحسب نتائج استطلاعات رأي أجرتها قناة "برسّ تي في" ونشرتها في 3 تشرين الأول/ أوكتوبر من العام 2011، فإن 73% من الذين أجري معهم الإستطلاع قد عارضوا بنود الإتفاقية. أما اليوم فتقدّر نسبة هؤلاء بحوالي 90%.
فعلى مرّ السنوات الثماني الماضية، لم تكن إتفاقية الغاز معروفة على الصعيد الشعبي، ومن التهم الموجّهة حاليّاً إلى مبارك هي أنّ الرئيس المخلوع كان قد باع الغاز المصري كجزء من الصفقات المحبّبة على قلبه والتي تورّط بأخذ رشاوى فيها أفراد من عائلة مبارك، ومساعدوه، فضلا عن مسؤولين إسرائيليين.
وفي سياق متّصل، كان رئيس "الشركة القابضة للغاز الطبيعي المصري" التي تملكها الدولة محمّد شعيب قد قال لوكالة الصحافة الفرنسية الأسبوع الماضي إن إتفاقية الغاز "قد ألغيت مع شركة غاز شرقي المتوسط الإسرائيلية (إي.أم.جي)، ذلك أن الشركة قد فشلت في تطبيق الشروط المنصوص عليها في عقد الإتفاقية".
وعندما تمّت الإطاحة بمبارك، وبدأت وكالات شرطته السرّيّة وعددها 14 وكالةً تفقد بعضاً من كلّيّة وجودها، قطع خطّ الغاز الطبيعي 14 مرّةً خلال 12 شهراً وذلك بسبب سلسلة انفجارات أوقفت 40% من تغذية إسرائيل بالغاز الذي كان يستخدم لتوليد الكهرباء.
وفي الإنتخابات النيابية الأخيرة، والآن خلال حملة الإنتخابات الرئاسية، يتجادل المصريون حول العلاقات مع إسرائيل للمرّة الأولى بشكل علنيّ. فلطالما كان مبارك حامياً لإسرائيل كغيره من القادة العرب الذين ما يزالون متمسّكين بالسلطة، ومتجاهلاً لمطالب شعبه حول الدعم الفعليّ لتحرير فلسطين.
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي 2012، تحدّث أحد الطلاب من جامعة الإسكندرية إليّ وإلى مجموعة صغيرة من الأميركيين والأوروبيين الذين كانوا يجلسون على المقاعد المقابلة للمكتبة الملكية القديمة الكبرى الرائعة بالإسكندرية. ففي استذكاره لمطالب تظاهرات ميدان التحرير في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، شرح قائلاً: "كانت شعاراتنا في ميدان التحرير عن الخبز والحرّية والكرامة والعدالة الإجتماعية. وكان ذلك تقريباً منذ سنة مضت. وإن شاء الله، سنحقّق مطالب هذه الثورة التاريخية قريباً، ومنها إلغاء إتفاقية "كامب ديفيد" وسحب الإعتراف بالنظام الصهيوني الذي ما يزال يحتلّ فلسطين. وعلى مصر أن تقود من جديد الإلتزام المقدّس في الوطن العربي بتحرير القدس وكامل فلسطين من النهر إلى البحر".
وأكملت الحوار سيّدة مذهلة ترتدي الحجاب، فأبدت لنا رأيها قائلةً "لقد اشترت الولايات المتحدة بعض قادتنا بالمليارات السخيّة التي حصلت عليها من شعبكم، ولكنها لم تكن ذات أي جدوى على شعبنا. أما إتفاقية "كامب ديفيد" فكانت إتفاقيّةً سرّيّةً بشكل أساسي لكلّ من السادات ومبارك. ولم يتكلّم أحد من شعبنا ولم يسألنا أحد عمّا إذا كنا نوافق عليها. وإذا تظاهرنا نسجن أو يفعل بنا ما هو أسوأ من ذلك. أما الآن فبدأ الشعب المصري يكتسب السلطة بالرغم ممّا يشبه الإنقلاب العسكري الذي تقوده الطغمة العسكرية المتمثّلة بالمجلس الأعلى للقوات المسلّحة قبيل الإنتخابات المقرّرة في حزيران/ يونيو".
ويزعم المسؤولون الإسرائيليون، إلى جانب اللوبي الأميركي الصهيوني، أن إلغاء إتفاقية الغاز يشكّل "تهديداً وجوديّاً" لهم. وبحسب باحث في دائرة بحوث الكونغرس الأميركي في مبني "ماديسون" في "الكابيتول هيل"، ومهمّته تتضمّن متابعة المزاعم الإسرائيلية، فإن هذا هو الزعم التاسع والعشرون بوجود "تهديد وجوديّ" للإستعمار الصهيوني خلال تاريخه الذي يعود إلى 64 عاماً. وتتراوح هذه التصوّرات حول "التهديد الوجوديّ" بين حق العودة للفلسطينيين المطهّرين عرقيّاً من منازلهم منذ النكبة وخلالها عام 1948 والمعترف به دوليّاً، وعدد من المجموعات الفلسطينية، وأكثر من عشرين قراراً للأمم المتحدة منها قرار رقم 194 وقرار رقم 242، وبشكل طبيعي حزب الله، ومشاريع حركة التضامن الدولي، وأكاديمية أو أكاديميتين يهوديتين، وبالتأكيد إيران، ونشوء المدوّنات على الإنترنت.
كما ويحتمل أن يكون كلّ مسيحي وعربيّ ومسلم على هذا الكوكب "تهديدا وجوديّا"، فضلاً عن التزايد المزعوم لمعاداة الصهيونية على صعيد عالميّ التي حكم عليها اللوبي الأميركي الصهيوني مؤخراً بأنها لطالما كانت وجهاً آخر من وجوه معاداة الساميّة.
وبالرغم من كلّ هذه "التهديدات الوجودية" المفترضة، ومنها ما يسمّى مؤخّراً "خارطة الطريق"، لا يزال القادة الإسرائيليون يتحاشون إقامة مفاوضات حقيقيّة قد تعني مشاركة العرب واليهود في فلسطين كجزء من دولة ديمقراطية علمانية على أساس أن الشخص الواحد يمثّل صوتاً واحداً، ومن دون أي حماقة كبرى من طرف "الشعب المختار".
وقد حذّر وزير المالية الإسرائيلي "يوفال شتاينتز" من أن نقاش مصر حول علاقاتها مع إسرائيل كان "سابقةً خطيرةً تهدّد إتفاقيّات السلام بين إسرائيل ومصر".
ومن جهتها قالت شركة "أمبال" الإسرائيلية التي تشتري الغاز أنها تعتبر إنهاء العقد "غير قانوني وسيّء النيّة"، كما وطالبت باستعادته كاملاً. وتخطّط الشركة نفسها لاستخدام التحكيم الدولي في محاولة لتدارك الأمر، وسترسل وفداً من الشركة إلى واشنطن للقاء اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة (أيباك)، بالإضافة إلى مسؤولين إداريين للطلب منهم إلغاء الخطوة المصرية وإرغام مصر على الإستمرار في بيع غازها الطبيعي بأسعار أدنى من سعر السوق. وفي رسالة إلكترونية، عبّر أحد الموظفين في الكونغرس عن المفارقة الطريفة وهي أن الشركات الإسرائيلية تحصل من الكونغرس الأميركي على مقوّمات خدماتية أفضل من تلك التي تحصل عليها الشركات الأميركية، أو حتّى الناخبون الذين ينتخبون أعضاءه.
وإلى ذلك، كتب محلّل سياسي إسرائيلي من جريدة "إسرائيل اليوم" نهاية الأسبوع الماضي إن "الخلاصة المؤلمة من إنهيار إتفاقية الغاز مع مصر هي أننا نتراجع إلى أيام ما قبل الإتفاقية السلام مع مصر، والأفق لا يبدو ورديّاً على الإطلاق. إن إتفاقيّة "كامب ديفيد" في خطر محدق. والخلاصة المؤلمة، مجدّداً، هي أننا لا نحظى بأصدقاء حقيقيين في المنطقة. بالتأكيد لا نحظى بأصدقاء على المدى الطويل".
وقد أعرب "أبراهام فوكسمان" المدير القومي لرابطة مكافحة التشهير (إيه.دي.أل) عن أسفه بقوله: "لقد منحت إسرائيل مصر صفقة هامّة مقابل إتفاقيّة "كامب ديفيد" للسلام، فقد كان ذلك أكثر مما كان ينبغي. ومن بين الأمور الأخرى، نذكر منطقة التجارة الحرّة التي قد سعينا فعليّاً لإقامة ورش خياطة وتصنيع النسيج المصري فيها مما يسهّل تصدير القطن الرخيص وغيره من السلع إلى الولايات المتحدة الأميركية فضلاً عن إسرائيل. لقد جعلنا الشعب المصري شعباً محترماً بعيون الشعب الأميركي. فهل هذا هو جزاؤنا على ما هم مدينون به لنا؟".
أما (أيباك)، التي لا تطيل فترة تكاسلها أبداً، فقد بدأت هذا الأسبوع بالترويج لمسوّدة قرار بين أهمّ عملائها في الكونغرس هادفةً إلى الحصول على إدانة الكونغرس الأميركي إلغاء هبة الغاز والمطالبة بتجديدها على الفور تحت تهديد وقف المساعدات الأميركية إلى مصر. كما وقد بدأ اللوبي بحشر إدارة أوباما، والتهديد بقطع تبرّعات اليهود إذا لم تقم هذه الإدارة بأي شيء لإقناع مصر بـ "مواجهة الواقع" وذلك بحسب ما قاله النائب الصهيوني المتطرّف "هوارد بيرمان"، وهو ديمقراطي رفيع المستوى في لجنة مجلس النواب للشؤون الخارجية.
إن الواقع السياسي هو أن الدبلوماسيين الأميركيين، ولجنة (أيباك)، والمسؤولين الإسرائيليين، الذين يصعب التمييز في ما بينهم أحياناً، كانوا يستعدّون لإحداث فجوة في العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ تظاهرة الربيع الماضي في مخيّم التحرير. وهم حقّاً يخشون أن تكون إتفاقية "كامب ديفيد" والسفارة الإسرائيلية في القاهرة الخطوتين التاليتين على المحكّ نتيجة تحرّك الشعب المصري.
وفي ما يخصّ الإغلاق المرتقب للسفارة الإسرائيلية في مصر، وبحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" اليومية، فإن: "ما هو حاصل حاليّاً هو تدهور مفاجئ في العلاقات، فلم يعد لإسرائيل موطئ قدم في مصر، والقنصلية المصريّة في تلّ أبيب ليست مفوّضة بإصدار تأشيرات الدخول. وكلّ من يصرّ على الذهاب إلى مصر من إسرائيل سيقع في المشاكل حتى ولو كان يحمل جواز سفر أجنبي. فيمكن أن يندرج اسمه على لائحة "الجواسيس" أو "عملاء الموساد". إنهم لا يريدوننا، الأمر بهذه البساطة بالنسبة لهم. أما لنا، فتواجد الإسرائيليين في مصر يشكّل خطراً حقيقيّاً عليهم".
ويقول "مارك ريغيف"، المتحدث باسم نتنياهو: "ما من أحد سيؤجّر مبناه في القاهرة ليكون مقرّ السفارة الإسرائيلية، أو لموظّفي السفارة الأقلّاء برئاسة السفير "يعقوب أميتاي". ونظراً لاعتبارات أمنية، قمنا بتخفيض أسبوع عملهم إلى حدّ هائل. فبات هؤلاء الموظّفون يصلون إلى مصر بعد ظهر الإثنين ويغادرونها في وقت مبكّر نهار الخميس. وكلّما تمّ العثور على مكان مناسب للسفارة (بثمن باهظ)، يفشل المسؤولون المحلّيّون الصفقة.
وبما أن المصريين مهتمّون بالأمر، يستطيع الدبلوماسيون الإسرائيليون البقاء في القدس إلى أن يتمّ انتخاب رئيسهم المقبل، وبعد ذلك نرى ما قد يحدث".
فرنكلين لامب يجري بحثاً في لبنان ويمكنكم التواصل معه عبر بريده الإلكتروني
[email protected]