المذاهب الفقهية اﻻسلامية عموماً تتفق معاً على مرجعين أساسين للتشريع هما القرآن والسنة لكن بعضها يضيف إلى القرآن والسنة، سنة الخلفاء وفقه التابعين -جيل أخذ عن أو لحق بالصحابة- والقياس والذي سمح باﻻجتهاد ﻻ يتعدى -حسب علمي- المذهب الحنفي والمذهب الجعفري اللذين يتمتعان بما نسميه فلسفة فكرية تتيح قدراً من حرية الفكر لشيوخ المذهبين، حرية خافتة عند اﻷحناف وواضحة عند الجعافرة وجلية صارخة عند المعتزلة ومشوشة ودرويشية عندالصوفيين.وتتجنب المذاهب الفقهية السنية -باستثناء المعتزلة- اﻻعتراف بالفلسفة بل ربطوها بالجنوح الفكري الكفري الذي جاء للديار اﻻسلامية من اليونان العابدين للأصنام. وقد بدأ هذه الحرب الشعواء على المعتزلة أحمد بن حنبل -غفر الله له- وأظنه وقف هذا الموقف -حسب استقرائي- ﻻتقاء انتشار الشعوبية التي صحبت مناصرة أهل خراسان -غير العرب- بقيادة أبي مسلم الخرساني للعباسيين ﻻستلام الخلافة من اﻷمويين. الشعوبية التي بدأت بذور الفتنة بين العرب وغير العرب ارتكزت على التمسك باللغات المحلية الضعيفة ومنع شعوبهم من تعلم اللغة العربية التي انتشرت بسرعة عجيبة فأتاحت للمبدعين من غير العرب تسجيل إبداعاتهم باللغة الغازية -كما اعتبرها بعضهم-.
ويمكنني التنويه إلى أن الفكر العربي اﻹسلامي بلغ أوجه إبان العصر العباسي اﻷول ابتداءً من عصر هارون الرشيد وخلال عصر الخليفة العالم "المأمون". في هذا العصر انتج المسلمون -من العرب وغيرهم- درراً فكرية وإبداعاً معرفياً على يد فلاسفة حملوا الفكر المعتزلي -منهم المعري والجاحظ وما شاكل-مدعومين بالمأمون المعتزلي الذي أغدق على التطوير الفكري والعلمي والخدماتي فازدهرت جميعاً.
تولى الخلافة بعد المأمون أخوه "المعتصم" (صاحب قصة وامعتصماه) الذي لم يكن عالماً كأخيه بينما كان متعصبا لرأي أخيه حيث قام بسجن أحمد بن حنبل على قضية معارضته لخلق القرآن الذي أثار العامة التي تعاطفت مع إبن حنبل. ويشاء الله أن يقضي المعتصم سريعاً فيتولى إبنه "الواثق" (وهو عالم كعمه) الذي بادر بإطلاق سراح ابن حنبل متبعاً سنة عمه بعدم سجن من يختلف بالرأي العلمي مع الخليفة.
وكما لم يفهم مريدو وتلامذة ابن حنبل أن سجنه كان من عصبية تمنع اﻻختلاف، فقد قصر فهمهم أن إطلاقه كان إطلاقاً لحرية الاختلاف الفكري بل فهموه على رضى الله عما ذهب إليه ابن حنبل وغضبه عما ذهب له المعتزلة. وقد بدأ اختلاق السلفية حينها واختلقوا فقهاً مجرماً حاربوا به المعتزلة بلا هوادة وبعنف مقزز وصل إلى اﻻتهام بالزندقة وتنفيذ القتل بهم مع تنكيل فظيع لم يأت اﻻسلام به إطلاقا وتأسس بذلك الجمود الفكري الممتد إلى عصرنا هذا.
ولعل من أسوأ تلامذة ابن حنبل محمد بن عبد الوهاب صاحب الوهابية التي استسهلت تكفير المسلمين لاستباحة قتلهم واﻻستيﻻء على أموالهم وانتهاك أعراضهم فعاث -كالقرامطة- فساداً في مدن جنوب العراق.
أعود ﻷقول أن المعتزلة هم من كان لهم فكر فلسفي -قد إلخص فلسفته العقائدية بأن الله مطلق وما عداه محدث-. واﻻعتزال مذهب متداول في فكر العلماء من السنة والشيعة فهو قد أتاح لهم اﻻشراقات اﻻبداعية التي أطلوا بها علينا وﻻ أرى غضاضة من تعميم هذا عليهم جميعاً رغم مناقضتهم لخلق القرآن لكي ﻻ تلحق بهم تهمة اﻻعتزال.
وكنت دقيقاً يامحمد عندما أوضحت أنك ﻻ تقصد إختلاف اﻷحكام وربما تناقشنا فلاحظت إلغائي أية فروقات بين المذاهب السنية -وأضم لها الزيدية- المبتية على فكر واحد هو السلفي. لكن هناك اختلاف فكري بين الجعفرية والسلفية يتعدى بكثير اﻻختلافات التشريعية الصغيرة فيركز السلفيون مثلاً على زواج المتعة فاختلقوا شروط صحة عقد الزواج كما اختلقوا تعبيرات ومفاهيم كثيرة ابتدعوها على الدين.
وإلى لقاء ....
فايز إنعيم