يشعر أغلب النساء ببعض الكآبة النفسية خلال فترة الحمل, فيما يصاب بين 50 و80% منهن, بشكل عام, بأحد أنواع حالات ما يعرف بـ اكتئاب ما بعد الولادة. ويعود السبب, كما يعتقد بعض الباحثين, إلي حصول بعض التغيرات الناجمة عن تغيرات تطال الهرمونات الأنثوية خلال مرحلة ما بعد الولادة,
بعد انقضاء وتيرة تغيرات الهرمونات تلك في مرحلة الحمل نفسها.
بينما يعتقد البعض الآخر, أن اكتئاب ما بعد الولادة يعكس حقيقة ما لحق بحياة المرأة من تغيير خلال مرحلة الحمل وما يمر بها بعد خروج الجنين من رحمها.
يقول د. ماهر محمد عبد الوهاب أستاذ أمراض النساء والولادة بطب قصر العيني: إنه بالرغم من سعادة المرأة بولادة طفل جديد لها, فإن اضطراب الهرمونات, والتغيرات الجسدية التي حصلت خلال شهور الحمل, وتعاظم الإحساس بالمسئولية الجديدة الملقاة عليها في العناية بالمولود, والشعور الداخلي بأن حياتها اختلفت, في جوانب شتي, بقدوم هذا الطفل, وغيرها من الأحاسيس والتفاعلات النفسية والاجتماعية مع من حولها في محيط الأسرة وخارجها, كلها عوامل قد تؤدي إلي تبدل أو اختلاط إحساس الفرح بأحاسيس من مزيج من الخوف والأسي و الكآبة وغيرها.
وهنالك ثلاث صور من اكتئاب ما بعد الولادة. ومن أكثرها شيوعا تلك الكآبة النفسية النفاسية أو الولادية, التي تبدو كنوع خفيف من الاكتئاب. ويصيب هذا النوع ثمانية من بين كل عشر أمهات خصوصا خلال الأيام الأولي التالية لعملية وضع الجنين. وقد يستمر هذا النوع مدة تصل إلي ثلاثة أسابيع. وينتشر, هذا النوع الخفيف من الاكتئاب بشكل أوسع, بين الأمهات الحديثات العهد بالأمومة. ويعتقد أن السبب وراء ظهور هذا النوع, هو حدوث التغيرات المفاجئة في معدل الهرمونات خلال وقت الولادة.
ومع ذلك يمكن أن تكون هناك أسباب أخري حقيقية, كصدمة الولادة نفسها و الاضطراب الذي يصاحب قدوم الطفل الجديد. ويعتبر هذا النوع من الاضطرابات الطبيعية التي تصيب الأمهات بعد الولادة علي الرغم من إحساس الأم بأنها غير طبيعية. ومن مظاهر ذلك أن تشعر الأم بالراحة للحظات, ثم لا تلبث أن تنفجر بالبكاء في لحظات تالية, دونما أن يكون ثمة سبب واضح. كما قد تصبح الأم شديدة الحساسية, وكثيرة القلق, و مفرطة في التوتر وسهلة الشعور بالإرهاق وعدم القدرة علي النوم, بل وحتي الشعور بالتعب والإرهاق بعد الاستيقاظ من النوم العميق, وفقدان الطاقة وفقدان الشهية والخوف من التغيرات الجسدية التي قد تطال بالتغير جمالها وتناسق قوامها, مما قد ينشأ عنه فقدان الثقة بالنفس وبالأنوثة وجاذبيتها.وسرعان ما تتبدد تلك الأحاسيس تماما في فترة قصيرة كما بدأت!.
ولا يعتبر هذا الأمر مقلقا إلا إذا استمرت, وساءت نتيجة لها الأحاسيس, إذ قد تعتبر بداية لحالة 'اكتئاب ما بعد الولادة'.
وهو نوع شديد من الاكتئاب, بالمقارنة مع النوع السابق, إلا أن ثمة ما هو أشد منه. ويصيب 10 إلي 15% من الأمهات بعد الولادة في أي يوم من الأيام و الأسابيع الأولي بعد الوضع. وبخلاف 'الكآبة النفاسية', قد يستمر لأكثر من شهر. وهذا النوع عبارة عن اضطراب في المزاج, ومع تفاوت الأعراض من امرأة إلي أخري إلا أنها تتمثل في التفكير السلبي والإحساس بالخيبة و القنوط وفقدان المتعة بالأشياء و الأمور المحببة لها من قبل, والبكاء بكثرة, أو عدم المقدرة علي البكاء , والشعور بعدم القيمة, الشعور بتأنيب الضمير لأشياء غير واقعية, الشعور بالقلق والذعر والانزعاج الشديد مع سرعة الغضب والانفعال وصعوبة في التركيز.
وقد يتطور الأمر لدي البعض منهن إلي الشعور بالفزع, الذي قد يؤدي إلي نوبات من الذعر والرغبة في إيذاء الطفل أو النفس, أو عدم الاهتمام بالنظافة الشخصية والمظهر, أو الهوس بجوانب من صحة الطفل. وقد يستحوذ الإحساس بالتوتر والقلق علي بعض الأمهات إلي درجة يفقدن فيها القدرة علي الاعتناء والاهتمام بأنفسهن أو بأطفالهن تماما. وقد يصاحب هذه الأعراض النفسية, أعراض جسدية كالإرهاق والتعب وفقدان القوة البدنية واضطرابات النوم وخفقان القلب والإحساس بالألم والخدر في الجسم وبطء الحركة.
حالات أقل انتشارا
ولحسن الحظ, تعتبر حالة 'ذهان ما بعد الولادة' أقل أنواع الاكتئاب انتشارا. وتشير الإحصائيات الطبية إلي أنها حالة تحدث لدي أم واحدة من بين ألف أم. وتتميز بأنها أكثر شدة وحدة من حالة 'اكتئاب ما بعد الولادة'. وتبدأ الأعراض هنا في الظهور خلال أول أسبوعين بعد الوضع, لتبدأ حالة نفسية يطلق عليها 'الانفصال عن الواقع'. وفيها تعاني الأم من الهلوسة والأوهام والهذيان. كما يصيبها فقدان شديد في الوزن دون اتباع نظام غذائي لإنقاص الوزن, مع عدم القدرة علي النوم لفترات طويلة قد تتجاوز الثماني والأربعين ساعة. وهنا نذكر أن 'ذهان ما بعد الولادة' هو أزمة صحية, أي حالة إسعافية تستدعي التدخل الطبي لتقديم العلاج الفوري للأم دون تأخير.
نساء أكثر عرضة
الواقع أنه لا يمكن تحديد النساء الأكثر عرضة للإصابة باكتئاب ما بعد الوضع من خلال مستوي الهرمونات فقط. إلا أن هناك فئات عديدة من النساء يصنفن علي أنهن أكثر عرضة من غيرهن للإصابة بالمرض.
وهي ما تشمل النساء اللواتي أصبن بالمرض بعد حمل سابق, واللواتي شهدن تجربة ولادة عسيرة, واللواتي سبق أن أصبن باكتئاب ما قبل الوضع, وكذلك النساء اللواتي أصبن من قبل باكتئاب لا علاقة له بالحمل. وكذلك اللواتي لديهن أم أو أخت عانت من اكتئاب ما بعد الوضع, باعتبار أن هذه الحالة المرضية تنتقل, علي ما يبدو, بين أفراد العائلة. وبالإضافة إلي ذلك,وجود أحداث غير سعيدة قد تؤثر علي نفسية الأم كالمشاكل الزوجية أو المادية أو العائلية أو غيرها, تساعد في الإصابة بالاكتئاب.
أسباب متنوعة لاكتئاب الأمهات
لا يوجد سبب محدد للأزمات العاطفية التي تعاني منها العديد من النساء بعد الوضع, ولكن يعتبر قدوم الطفل مرحلة تغيير كبيرة في حياة المرأة, ويحدث للأمهات الحديثات الأمومة تغيرات بيولوجية وجسدية وعاطفية واجتماعية مما قد تؤدي مجتمعة إلي الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة. ويمكن أيضا لأحداث مزعجة أخري تحدث في نفس الوقت أن تساهم في حدوث الاكتئاب.
التغيرات البيولوجية
إن التغيرات السريعة التي تحصل بعد الوضع في مستوي الهرمونين الأنثويين الأستروجين والبروجيستيرون تؤثر بشكل كبير علي صحة المرأة العقلية, فمن المعروف خلال فترة الحمل, أن يرتفع مستوي هرمون الإستروجين والبروجستيرون إلي عشرة أضعاف لاستمرارية الحمل. وبعد الولادة ينخفض مستوي البروجيسترون بشكل كبير إلي أن يصل إلي ما كان علية قبل الحمل في غضون اثنين وسبعين ساعة بعد الوضع, فيلعب هذا الانخفاض الدراماتيكي دورا ما في إصابة النساء باكتئاب ما بعد الولادة, وبجانب هذا الأمر, ترتفع نسبة الأندروفين خلال فترة الحمل وهي مواد طبيعية يفرزها الجسم وتعمل علي تحسين المزاج, ومن ثم ينخفض مستوي هذا الهرمون بعد الوضع مباشرة بصورة حادة, مما يعزز احتمالات الإصابة بالاكتئاب.
التغيرات الجسدية
تشكل عملية الولادة في حد ذاتها كثيرا من الإرهاق والتعب للأم و في بعض الأوقات يمكنها أن تسبب مشاكل جسدية كالآلام التي تسببها الولادة القيصرية والتي تحتاج إلي فترة للتخلص من آلامها والقدرة علي استعادة القوة الجسدية وسهولة حركته, كما أن رعاية طفل وليد كثير المطالب يصعب معها أخذ قسط من الراحة, فتفقد الأم القدرة علي النوم وقتا كافيا. وفي حال وجود أطفال آخرين يزداد العبء علي الأم لرعايتهم جميعا,بل قد يتطلب الأمر بذل جهد إضافي والمزيد من الاهتمام منها حال ظهور أي من مشاعر غيرة تجاه القادم الجديد مما يؤدي إلي إرهاق الأم.كما تشعر بعض النساء بعد الولادة بقليل من الثقة في أنفسهن وأنهن أصبحن أقل جاذبية لأن شكل جسدهن قد تغير وأنه لم يعد لديهن الوقت للاهتمام بأنفسهن مما يصيبهن بالإرهاق النفسي.
التغيرات العاطفية
قد لا تشعر بعض الأمهات بالشعور الطاغي بالأمومة, أو بالأحاسيس اللائي كن يتوقعنها لدي حمل الطفل لأول مرة, فبعض النساء يقعن في حب أطفالهن من أول نظرة والبعض الآخر يتعلمن حبه تدريجيا,مما يصيب الأم الشعور بالإحباط والقلق مما يساهم في حدوث الاكتئاب.
التغيرات الاجتماعية: من الطبيعي لأي أم الشعور بالانعزال وانعدام الحياة الاجتماعية النشطة, كما قد يفرض قدوم الطفل الجديد قيودا علي حياة الأبوين الزوجية لأنه يصعب في أغلب الأوقات مع متطلبات العناية المستمرة بالطفل,قضاء الوقت معا كزوجين,ومع هذا الحرمان,يسيطر الشعور بالوحدة علي الأم وبالتالي إضافة مساهم جديد للإصابة بالاكتئاب.
تأثيرات سلبية علي الطفل
ويضيف الدكتور عمرو عبدالفتاح رئيس قسم النساء والولادة بمستشفي دار الشفاء قائلا: إن إصابة الأمهات باكتئاب ما بعد الولادة له تأثير سلبي علي الطفل, يمكنه أن يستمر حتي مرحلة الطفولة المتأخرة. وذلك لقلة تفاعل الأم المكتئبة مع وليدها, الأمر الذي يؤثر علي سلوك الطفل لاحقا فتتأثر قدرته علي التعامل والمشاركة مع الأطفال الآخرين وتكون لديه مشاكل سلوكية ومشاكل في التعليم, لذلك فإنه من المهم الكشف عن ومعالجة اكتئاب ما بعد الولادة مبكرا .
وعلاج اكتئاب ما بعد الولادة يعتمد علي شدة أعراض الاكتئاب, فالاكتئاب الخفيف العابر الذي يصيب المرأة, والذي يستمر من عدة أيام إلي أسبوعين, لا يؤثر علي الأم بصورة شديدة, ولا علي اهتمامها بالطفل, وعادة يختفي تلقائيا. ولذا فإنه لا يستدعي العلاج الطبي أو الدوائي , بل كل ما تحتاجه الأم خلال تلك الفترة هو الاهتمام والدعم من قبل الزوج والأبناء والأهل, ومراعاة حالتها النفسية ومشاركتها الاهتمام بوليدها وتخفيف المسؤوليات الأخري عنها.أما في حال امتداد فترة الاكتئاب لوقت طويل, فقد يستدعي الأمر التدخل الطبي
تعرض الحوامل للتوتر قد يؤدي لتدمير الحمل وإنجاب أطفال أشقياء
ويستطرد الدكتور عمرو عبد الفتاح قائلا :لقد كشفت دراسة لباحثين أمريكيين أن النساء اللاتي يعانين من القلق بشأن أمور مالية وعلاقات إنسانية ومشكلات أخري أثناء الحمل قد يرزقن بأطفال أكثر عرضة للاصابة بالحساسية والربو.
وجاءت نتائج الدراسة في اجتماع لجمعية أطباء الصدر في تورونتو بكندا, لتؤكد أن توتر الحامل قد يكون له تأثيرات سلبية دائمة علي صحة الطفل.
وأكدت ذلك الدكتورة روزاليند رايت من كلية طب هارفارد في بوسطن ' حيث قالت :تدل هذه الدراسة علي وجود صلة بين التوتر الناتج عن مشكلات مالية أو مسائل مرتبطة بالعلاقات وبين تغيرات تطرأ علي جهاز مناعة المواليد حتي قبل ميلادهم.'
توصلت الدكتورة رايت الي أن الأمهات اللائي عانين من توترات شديدة أثناء حملهن كن الأكثر عرضة لإنجاب مواليد لديهم مستويات مرتفعة من (الايمونوجلوبالين E) immunoglobulin E أحد مكونات جهاز المناعة حتي وإن لم تتعرض الأمهات لنسبة كبيرة من مسببات الحساسية أثناء الحمل.
الاستاذعبد الفتاح منصور
مجلة نصف الدنيا